حسن فتحي ـ سيرة ذاتية
• حسن فتحي (1900-1989)
• 1926 _ دبلوم العمارة من المهندس خانة.
• (30-57) ـ أستاذ محاضر للعمارة بكلية الفنون الجميلة ـ وترأس قسم العمارة (53-57)
• (57-62) ـ مستشار مؤسسة "دوكسياريس" للتصميم والإنشاء ـ بأثينا.
• (64-68) ـ أستاذ محاضر بجامعة الأزهر الشريف قسم "التخطيط".
• (67 -69) ـ خبير بمعهد أدلاي إستفسون بجامعة شيكاغو
• المشروعات المعمارية:
• تصميم وبناء قرية القرنة ـ 1948.
• تصميم وبناء مدرسة فارس ـ أسوان ـ 1949.
• مشروع قرية باريس الواحات الخارجة ـ 1970.
• قرية دار الإسلام بنيوميكسيو ـ 1980.
مؤلفات:
• من أهم مؤلفاته: عمارة الفقراء الذي كتبه بالإنجليزية وصدر في طبعة محدودة عن وزارة الثقافة المصرية 1969، ثم طبع طبعات متعددة بلغات مختلفة في العديد من أنحاء العالم، لم تصدر ترجمته العربية إلا في عام 1993 حين قام د. مصطفى إبراهيم فهمي بترجمته بمبادرة شخصية وقد صدر عن كتاب أخبار اليوم، ومؤخرًا أعيد طبعه في سلسلة مكتبة الأسرة.
• العمارة والبيئة ـ كتابك ـ دار المعارف 1977.
• له الكثير من الأبحاث في مجال العمارة والإسكان والتخطيط العمراني وتاريخ العمارة بالإنجليزية والفرنسية والعربية.
• وجد في مخطوطاته عدة مسرحيات ألفها بنفسه ووضع تصميمات لديكوراتها وملابس شخصياتها.
• نال عددًا كبيرًا من الشهادات والجوائز والنياشين من عدد كبير من الجامعات والهيئات المعمارية العالمية، من أهمها:
• جائزة الاتحاد الدولي للبناء "أحسن مهندس في العالم 1987".
• جائزة الرئيس من منظمة الأغاخان للعمارة 1980.
ولد المهندس حسن فتحي عام 1900م ميلادية، وتخرج في "المهندس خانة" بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا)، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1959م، وجائزة الدولة التقديرية سنة 1969م، وتُوفي سنة 1989م دون أن يتزوج، لكنه أعطى حياته كلها لأفكاره.
تكمن الأهمية الحقيقة لحسن فتحي في كونه مهندسًا له وجهة نظر خاصة مرتكزة على تراث أمته ومستفيدة في الوقت نفسه من إنجازات الآخرين. فالبناء عنده لم يكن مجرد جدران وسقف، بل كان حياة وحضارة، وتراثًا لم يمت، بل ما زالت روحه حية، وإعدادًا جيدًا لمستقبل متواصل مع هذا التراث تواصلاً جديًّا في غير انقطاع.
كان حسن فتحي يرى أن أهم مشكلات المعمار والإسكان في الدول الفقيرة كمصر تكمن في الفوارق الرهيبة بين القدرات المادية والدخل السنوي للأهالي وتكاليف البناء، مما يؤدي إلى عدم القدرة على بناء العدد الكافي من المساكن التي يحتاجها أفراد المجتمع، فيحظى بالمساكن من يملكون تكاليفها، وتبقى الأغلبية الفقيرة بلا مأوى، إلا الأكشاك أو الخيام أو التكدس كل عشرة أفراد في شقة من حجرة واحدة وصالة، مما يؤدي بدوره إلى مشاكل اجتماعية نفسية لا نهائية.
ويرى أن الإصرار على حل المشكلة بالمساعدات المالية التي تُمْنح للأهالي عن طريق الحكومات أو الهيئات الدولية لن تأتي بنتيجة، كذلك لن تكون ميكنة البناء واستخدام المباني الجاهزة أو الطرق الغربية في البناء حلاًّ لعظم تكاليفها.
ويطرح المهندس حسن فتحي حلولاً أهمهما: قيام الأهالي بالبناء بأنفسهم لأنفسهم عن طريق التعاون التقليدي، وليس الجمعيات التعاونية لذات الموظفين البيروقراطيين، وإخضاع علوم الهندسة والتكنولوجيا الحديثة لاقتصاديات الأهالي ذوي الدخول شديدة الانخفاض، بما يسمح بإيجاد مسكن يتفق مع هذه الدخول، ويؤكد حسن فتحي هنا أن ذلك يستلزم إيجاد النظام الاجتماعي - إداري / مالي- بما يسمح باستمرار فاعلية النظام التعاوني التقليدي في الظروف الحالية غير التقليدية، ذات النظام الذي بطلت فاعليته قبل الأوان بالنسبة للغالبية العظمى من الأهالي من جراء عمليات التحول الاجتماعي والاقتصادي التي شملت العالَم المُصَنِّع وجَرَّتْ معها العالَم غير المصنِّع أو العالم الثالث.
العقبة الاقتصادية الرئيسية في عملية البناء تتمثل في السقف؛ لأنه يتطلب "استعمال مواد تتحمل جهود الشد والانحناء والقص بالخرسانة المسلحة والخشب، ومن هنا كان تمسك الخبراء بهذه المواد المصنعة، وحل هذه المشكلة الفنية عند حسن فتحي مُسْتَمَدٌّ من تراثنا المعماري الذي انتهجه الأجداد الذين أعطوا السقف شكل قبو ذي منحنى سلسلي، وبذلك امتنعت كل جهود الشد والانحناء والقص، واقتصرت على جهود الضغط، والطوب الأخضر يتحمل هذه الضغوط بكل يسر، إن القدامى حلوا المشكل عن طريق الشكل الهندسي للسقف وليس عن طريق استعمال المواد المصنعة الغالية، وهكذا أخضع القدماء التكنولوجيا لاقتصاديات الأهالي الفقراء بحيث تسمح بإنشاء هذه الأسقف المقببة بدون صلبات أو عبوات خشبية، إنهم يثبتونها في الهواء، بكل بساطة بالطرق التي كانت سائدة إلى الأمس القريب في بلاد النوبة، التي لم تزل سائدة في إيران إلى اليوم وخاصة في إقليم " يرد " .
كان المفهوم الواسع لكلمتي الثقافة والتراث هو مدخل حسن فتحي إلى فلسفته في مجال العمارة، فهو يرى أن الثقافة عُرفت بأنها نتيجة تفاعل ذكاء الإنسان مع البيئة في استيفاء حاجاته المادية والروحية، وينطبق أكثر ما ينطبق صدق هذا التعريف على الفنون التشكيلية ومنها العمارة؛ لأنه ليس من المعقول أن يصور مصور سويسري لوحة بها جِمال ونخيل عن طبيعة بلاده، كما لا يمكن ولا يُعْقل أن يقوم مهندس معماري عربي ببناء شاليه سويسري في مصر أو الكويت، وبجواره نخيل وجمال، إنه يكون أمرًا مضحكًا كما هو في الأفلام الهزلية، ولكن للأسف هذا هو الحادث اليوم في كافة البلاد العربية، ليس ببناء شاليهات سويسرية في المنطقة العربية، وإنما ببناء عمارات أمريكية على الطراز الغربي الحديث الذي يتنافى مع طبيعة البلاد وأشكال الناس وملامحهم التي تصبح عندما نراهم بجوار تلك المباني كأشكال النخيل والجِمال بجوار الشاليه السويسري .
فحسن فتحي كما نرى يؤكد على أن يكون المعماري ليس مجرد مهندس، ولكنه مدرك للأبعاد المختلفة للبيئة والسكان تاريخيًّا واجتماعيًّا وسيكولوجيًّا وبيولوجيًّا، كما يهتم بمراعاة مناسبة البناء للمكان (وادٍ / صحراء / جبل) حتى لا يكون قبيحًا وغير متناسب مع البيئة، وهو يرفض أن يصبح الطابع الفرعوني أو القبطي أو البابلي أو الآشوري أو الإسلامي مجرد حلية زائفة في بناء معماري على النمط الغربي، وهو يعبر عن سعة أفقه وذكاء فهمه بقوله: "إن ثَمَّة عناصر قديمة بائدة في العمارة التقليدية لا تصلح اليوم، مقابل عناصر أخرى فعالة متطورة هي التي يجب استخلاصها وإثراؤها بوحي من مواد البناء المحلية ".. فالفن المعماري عند حسن فتحي " ليس صيغة ثابتة لكل العصور، بل هو مرهون بالملامح والقوى والسمات السائدة وبالظروف الخاصة الدائمة التغير".
لقد طبق حسن فتحي فلسفته في قرية القرنة في البر الغربي - جنوب وادي النيل - في مواجهة الأقصر، وشرحها تفصيليًّا في كتابه "عمارة الفقراء" الذي نُشر بعدة لغات أجنبية وأعطى حسن فتحي الشهرة العالمية، كما طبق أفكاره المعمارية أيضًا في قرية "مشربية ".
أما بخصوص أفكاره حول البحيرات الصناعية، فبعد إنشاء السد العالي ونضوب الطمي من النيل، لجأ الفلاحون - للحصول على الطمي لتصنيع الطوب - إلى كشط الأراضي الزراعية، وعمل برك ومستنقعات لهذا الغرض تؤدي إلى انتشار الأمراض، وكان اقتراح حسن فتحي هو إنشاء بحيرات صناعية لهذا الغرض؛ لأن البحيرة التي مسطَّحُها خمسة أفدنة ستعطي طميًا يعادل الطمي الناتج من سطح 100 فدان، لكنه أكد على اختيار الموقع المناسب، وتصميم البحيرة بحيث يمكن تجديد هوائها دوريًّا، وبحيث يمكن تعقيمها في الوقت نفسه، وبذلك يتم القضاء على سركاريا البلهارسيا، والمحافظة على خصوبة الأراضي الزراعية، والحصول على كميات هائلة من الطمي لصناعة الطوب.
ويلخص( ويليام ر. بولك ) رئيس معهد أدلاي ستيفنسون للشئون الدولية تجربة حسن فتحي قائلاً: وما يقترحه الدكتور فتحي هو شكل جديد من المشاركة، أما ما ينبغي أن يُسَلِّم به الفقراء في هذه المشاركة فهو بالضرورة عملهم، كما يمكنهم في كثير من أنحاء العالم أيضًا أن يحوزوا بلا تكلفة جوهرية مادة بناء واحدة ممكنة هي التربة التي تحت أقدامهم، وبهذين الشيئين - العمل والتربة - يمكنهم أن ينجزوا الشيء الكثير، على أن هناك مشاكل تقنية ومشاكل أخرى لا يستطيعون حلها بأنفسهم، أو هي عرضة لأن يتم حلها بطرق مكلفة أو قبيحة أو غير سليمة، وهاهنا فإن المهندس المعماري يستطيع أن يقوم بإسهام رئيسي، وما يبينه الدكتور فتحي لنا هو أن المهندس المعماري يمكن أن يكون هو المرشد لما يكون أساسًا مشروعًا يعتمد على الذات أو يعتمد على العون الذاتي، والدكتور فتحي إذ يخوض في الصراع مع مشاكل الفقر الساحق، ومع البيروقراطيين فاقدي الإحساس، ومع أناس مليئين بالشك، ومع أناس كئيبين بلا مهارات.. فإنه هكذا قد وَلَّد لا الإجابات فحسب، بل ما هو ملهم أيضًا، والحل الذي يطرحه له أهميته على نطاق العالم كله، وفي فكره وخبرته وروحه ما يشكل موردًا أساسيًّا على النطاق الدولي .
ظل حسن فتحي المعماري العبقري الفذ مؤرقًا طوال حياته بمشكلة أشبه بمشكلات الثوار العظماء وهي توفير المسكن الصحي والرخيص لأفقر الفقراء من المصريين وربما لفقراء العالم أجمع، وقد أبدع حسن فتحي طريقة ومنهجًا معماريًا يمكّن الفقراء فعلا من أن تكون لهم بيوت متينة وواسعة وجميلة، وهذا باستخدام أبسط المواد المتاحة في البيئة المحلية وتبعًا للتراث الشعبي المحلي للعمارة في هذه البيئة.
وقد توصل لذلك حسن فتحي بالربط الخلاق المبدع بين التراث المعماري الشعبي والمعماري الهندسي العلمي، وقد أثبت حسن فتحي صحة نظرياته وواقعيتها حينما بنى الكثير من البيوت والقرى في مصر، وغيرها من بلدان العالم التي بهرت كل من رآها بمتانتها وجمالها. ومع هذه المهمة الجليلة التي كان المفترض أن يقوم بتشجيعها كل من يصادفها انقلبت الموازين وصار حسن فتحي وعمارته يحاربان بضراوة من قبل اتحاد من الحكومات التي تعادي الفقراء، ومن المقاولين الانتهازيين وتجار مواد البناء وحتى من المعماريين الأكاديميين الذين تجاهلوا أفكاره ومنعوا تدريسها في أقسام العمارة بالجامعات المصرية.. وهكذا مات حسن فتحي دونما أن يحقق شيئًا حلم به للإنسان، خصوصًا الإنسان الفقير.
حسن فتحي
عندما ابتعث الرائد المعماري "حسن فتحي" نمط بيوت النوبة المبنية بالطين والمسقفة بالقبب والأقبية في بداية الأربعينيات لم يكن يخترع شيئًا من عدم، ولم يكن يبتعثه أيضًا كفلكلور يبغي منه أن يحوز إعجاب الأثرياء والأجانب لما يجدون فيه من غرابة وطرافة، إنما كان هذا نابعًا من مسئوليته كمهندس معماري يقوم بدور رائد وهو إحياء التراث المعماري المحلي للعمارة الشعبية المصرية؛ إذ وجد فيه الحل المناسب إن لم يكن الأمثل لمشكلة شديدة الإلحاح وهي توفير بيت لكل فلاح فقير في الريف المصري، بتكلفة اقتصادية منخفضة تناسب دخل هذا الفلاح، على ألا تنتقص هذه التكلفة المنخفضة من حق هذا الفلاح في أن يكون له بيت متين وواسع ومريح وجميل.
جماليات البسطاء
فالبيوت المبنية بالطوب اللبن والمسقفة بالقبب والأقبية حازت جدارة ليس لما فيها من جماليات معمارية فقط، بل ولنتائجها الاقتصادية الجيدة حين تم إخضاعها للحسابات الاقتصادية في التكلفة، والحسابات العلمية والهندسية في المتانة وتصميمات البناء، بالإضافة إلى تناسبها وتجاوبها مع البيئة المحيطة، فخامة الطين التي تُعَدّ مادة البناء الأساسية في هذه البيوت خامة موجودة ومتوفرة في البيئة الريفية من هنا تنعدم تكلفتها تقريبًا، وقد أثبتت البحوث العلمية التي أجراها حسن فتحي على هذا النمط من البناء مدى قوة خاماته وتناسب تصاميمه.. من ذلك تلك الشواهد التاريخية التي تمثلت في بعض العمائر والبنايات والبيوت التي بقيت على الأرض المصرية، مثل: مخازن قمح الرامسيوم بالأقصر التي يعود تاريخها إلى أكثر من 2500 سنة، وهي مبنية بخامة الطوب اللبن ومسقفة بالقبب والأقبية؛ إذ أفصحت بالدليل الواقعي أن هذه الخامة والتصميمات من القوة والمتانة بما جعلها تعيش آلاف السنين.
وإذا كانت بيوت النوبة التي لا يختلف على جمالها ومتانتها وحسن تصاميمها مبنية بالطين والطوب اللبن فقد استنتج حسن فتحي أن العطن والعتمة في بيوت الفلاحين الفقراء ليسا راجعين لكونها من الطين، بل يرجعان إلى الطريقة العشوائية والمعوزة التي يبني بها الفلاح بيته من دون مرشد معين بعد أن انقطع عن تراثه، وفي نفس الوقت لم تُعنَ العلوم المعمارية الحديثة بتقديم حلول مرشدة له في بناء بيته في حدود اقتصادياته وإمكانات بيئته.
فالفلاح المصري الفقير إذا كان يستطيع أن يبني جدران بيته من الطين، فهو لم يكن لديه في حدود خبرته وإمكاناته أن يتغلب على مشكلة تسقيف بيته، فالأخشاب التي يسقف أغنياء القرية بها بيوتهم لم تكن متوافرة في البيئة وتكلفتها ليست باستطاعة الفلاح، ومن ثَم فقد كان الفلاح إما أن يسقف بيته بحزم "البوص" (الغاب)، وهو سقف هش تنشأ عنه مشكلات كثيرة ولا يفي بالغرض، أو يتركه هكذا عاريًا، فطريقة التسقيف بنفس الخامة التي بنيت بها حوائط البيوت "الطين" على هيئة قبب كان الفلاح قد انقطع عنها ولا يعرف مهارات بنائها، وقد ظلَّت هذه الطريقة في النوبة وإن كانت متوارية عن باقي قرى الريف المصري، ولا يعرف مهارات بنائها إلا البنَّاءون النوبيون الذين لم يكن يطلبهم أحد أو يوجههم؛ لتعميم طريقتهم الرخيصة والمتينة والجميلة في تسقيف البيوت في جميع القرى المصرية.
المعماري والدور المعكوس
وتمثل عطاء حسن فتحي في أنه استطاع كمعماري أن يعثر من داخل البيئة والتراث المحلي للعمارة الشعبية على تقنيات يحل بها مشكلة توفير بيت لأغلبية السكان في حدود اقتصادياتهم وإمكانات بيئتهم.
وهو بذلك كان يقوم بالدور الحقيقي للمعماري في مجتمعه، وهو البحث عن مواد وخامات وإمكانات البيئة التي ينبغي فيها الأخذ بخبرات الأجيال السابقة في البناء إذا كانت هذه الخبرات تقدم حلولاً اقتصادية ونافعة، وإدخال التطويرات والتحسينات عليها إذا لزم؛ ذلك لتكون مواكبة للتغيرات التي قد تكون طرأت على المجتمع والبيئة، وهو هنا يقوم تقريبًا بعكس الدور الذي يقوم به المعماري التقليدي الذي يفرض على عملائه مواد وتصميمات قد لا تتوافق مع اقتصادياتهم ومع بيئتهم، وهو يفعل ذلك لا لشيء إلا ليظل متسيدًا الموقف تجاه عميله، ويجعله دائمًا تحت رحمته، وهذا إن كشف فإنما يكشف عن الروح الانتهازية والمتسلطة التي تغلب على أداء دور المعماري التقليدي في مجتمعه، والاستلاب الكامل أمام التصميمات والتقنيات الأوروبية في العمارة.
بيوت وتصاميم.. فلسفة العمارة
وقد تميزت البيوت التي بناها حسن فتحي وظلَّ يدعو للأخذ بها والتي استوحاها من بيوت النوبة بأنها متوافقة توافقًا كليًّا مع البيئة فهي -غير رخص تكلفة خاماتها- تحقق تهيئة مناخية رخيصة للمنزل ليس بحكم خاماتها المتوافقة مع البيئة فقط، بل بحكم توافق تصميماتها، فالبيت من هذه البيوت يستمد تهويته وإضاءته من فناء داخلي تنفتح عليه نوافذ البيت من الداخل، وهذا يقي أهل البيت من الأتربة والتيارات الهوائية غير المستحبة، فضلاً عن ذلك فإن هذا الفناء يحقق خصوصية البيت وحرمته التي تتوافق مع القيم الدينية والأخلاقية لساكنيه، وهاتان الوظيفتان ما كانت تحققهما تصميمات البيوت الحديثة التي يضعها المعماريون التقليديون من كونها تستمد فلسفة تصميماتها من العمارة الأوروبية التي تفضل -تبعًا لتوافقها مع بيئتها- الانفتاح على الخارج.
وهذه بعض من كل المميزات التي تتميز بها البيوت التي دعا إليها حسن فتحي، والتي أفاض في وصف ميزاتها الكثيرة البنائية والوظيفية والجمالية في كتابة "عمارة الفقراء" على أن اقتصاديات البناء في بيوت حسن فتحي لم تكن تقف عند ذلك، بل إن حسن فتحي دعا لنظام تعاوني في بناء القرى، وهو تطوير لتقليد كان يسود بين فلاحين القرى المصرية؛ إذ كان كل فلاح يقوم ببناء بيته يلقى دعمًا ومؤازرة من الجماعة، وكان حسن فتحي يقول دائمًا: إن فردًا واحدًا لا يستطيع بناء بيت بمفرده، ولكن عشرة أفراد قادرون على بناء عشرة بيوت.
قرنة الأقصر.. إثبات النظرية
وفي النصف الثاني من عقد الأربعينيات بنى حسن فتحي قرية القرنة بالأقصر تبعًا لطريقته في بناء بيوت الفلاحين، وأثبت على نطاق واسع وواقعي أن بناء القرى بالطوب اللبن تقل تكاليفه عن البناء بأي مادة صناعية أخرى، فضلا عن تناسب هذا البناء مع البيئة المحيطة، وإن كان الفلاحون لم يسكنوا في هذه القرية فهذا راجع لأنهم أرادوا أن يبقوا في قريتهم القديمة، حيث تقع فوق المقابر الأثرية التي كان يسرقون محتوياتها وتحقق لهم مكاسب كبيرة دون أي جهد أو عناء لا لسوء في مباني حسن فتحي، ولكنه الحلف الذي تكون من المهندسين والمقاولين الانتهازيين وكل من له مصلحة في تسيد طريقة البناء بالإسمنت، وفي البيئة المصرية راح يروج أن إعراض الفلاحين عن السكن في القرية الجديدة يرجع لسوء المباني التي بناها حسن فتحي.
ولم تكن الحكومات البيروقراطية فيما بعد يوليو 52 أفضل من الحكومات الملكية في موقفها من مشروعات حسن فتحي، فحين تقدم حسن فتحي بمشروع لبناء قرى للنوبيين المهجرين بعد غرق قراهم من جراء بناء السد العالي استبعدت مشروعاته رغم كل ما فيها من مميزات وبنت لهم الدولة بيوتًا إسمنتية شائهة وضيقة أشبه بعنابر السجون وكأنها تريد أن تعتقلهم فيها لا أن تقوم بإسكانهم، وبدلا من أن يبني حسن فتحي بيوت النوبيين استدعي لبناء استراحة للرئيس السادات في أسوان على طريقة المنازل النوبية؟! كما أوقف البناء في قرية باريس التي كانت مشروعًا من ضمن مشاريع حسن فتحي المجهضة في مصر بحجة عدم وجود ميزانية كافية لاستمرار البناء.
وفي أواخر حياته لم يكن أمام حسن فتحي سوى أن يحاول أن يودع علمه لدى بعض من تلاميذه لعلهم يكونون أوفر حظًا في تنفيذ أفكاره فحاول أن يؤسس معهدًا ليقوم بتدريس نظريته العمارة وتطبيقاتها التي أطلق عليها "تكنولوجيا البناء المتوافقة مع البيئة"، خصوصًا أن أفكار ونظريات حسن فتحي كانت تعد من المحرمات في أقسام العمارة بالجامعات المصرية، ولكن حتى هذا المعهد أجهض رغم النضال المستميت الذي بذله حسن فتحي في إنشائه.
لا يزال المنهج حاضرًا
ولكن قد يتساءل المرء: هل يمكن الاستفادة الآن من أفكار ونظريات حسن فتحي في العمارة؟ وخاصة أن خامة الطين التي كان يستند إليها في عمارته لم تعد موجودة في القرى المصرية، بل إن القرى المصرية الحالية امتلأت كلها عن آخرها ببيوت الإسمنت والخرسانة؟! وما نريد أن نؤكده أن حسن فتحي لم يرتبط بخامة الطين في مبانيه إلا في المباني التي كان يبنيها في بيئات متوفرة فيها هذه الخامة. وحينما كان يبني في الصحراء كان يبحث عن مواد بيئية توجد في البيئة الصحراوية، وهو ما حققه بالفعل حين كان يبني بالحجر في الصحراء، وقد دعا لاستخدام الطفلة التي توجد في الصحراء كخامة بيئية رخيصة وأفضل من أي خامة صناعية أو مستجلبة.
أما كون القرى المصرية التقليدية لم تعد فيها أي إمكانية لتنفيذ مشروعات حسن فتحي، فيمكن الاستفادة من أفكار ونظريات حسن فتحي في المجتمعات العمرانية الجديدة التي ستقام في الصحراء مثل قرى ومدن توشكي وغيرها وهي من الكثرة بحيث يجب التفكير في طريقة اقتصادية لبنائها؛ لأنها صارت الامتداد الوحيد للنمو السكاني والعمراني في مصر.
حسن فتحي.. سيد البنَّائين
-هيام عبد الودود-
________________________________________
يقول الأديب جمال الغيطاني في تقديمه للطبعة العربية من كتاب "عمارة الفقراء": "أصبح فكر سيد البنائين المصريين حسن فتحي ملكًا للإنسانية كلها، أفكاره المعمارية تتجسد في مصر وأمريكا وأوروبا وآسيا.. إنها ليست مجرد أفكار هندسية.. ولكنه بحث أصيل ودؤوب في الشخصية والهوية والتراث المعماري والفكري والحضاري للشرق".
ولد المهندس حسن فتحي عام 1900م ميلادية، وتخرج في "المهندسخانة" بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا)، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1959م، وجائزة الدولة التقديرية سنة 1969م، وتُوفي سنة 1989م دون أن يتزوج، لكنه أعطى حياته كلها لأفكاره.
تكمن الأهمية الحقيقة لحسن فتحي في كونه مهندسًا له وجهة نظر خاصة مرتكزة على تراث أمته ومستفيدة في الوقت نفسه من إنجازات الآخرين. فالبناء عنده لم يكن مجرد جدران وسقف، بل كان حياة وحضارة، وتراثًا لم يمت، بل ما زالت روحه حية، وإعدادًا جيدًا لمستقبل متواصل مع هذا التراث تواصلاً جديًّا في غير انقطاع.
كان حسن فتحي يرى أن أهم مشكلات المعمار والإسكان في الدول الفقيرة كمصر تكمن في الفوارق الرهيبة بين القدرات المادية والدخل السنوي للأهالي وتكاليف البناء، مما يؤدي إلى عدم القدرة على بناء العدد الكافي من المساكن التي يحتاجها أفراد المجتمع، فيحظى بالمساكن من يملكون تكاليفها، وتبقى الأغلبية الفقيرة بلا مأوى، إلا الأكشاك أو الخيام أو التكدس كل عشرة أفراد في شقة من حجرة واحدة وصالة، مما يؤدي بدوره إلى مشاكل اجتماعية نفسية لا نهائية.
ويرى أن الإصرار على حل المشكلة بالمساعدات المالية التي تُمْنح للأهالي عن طريق الحكومات أو الهيئات الدولية لن تأتي بنتيجة، كذلك لن تكون ميكنة البناء واستخدام المباني الجاهزة أو الطرق الغربية في البناء حلاًّ لعظم تكاليفها.
ويطرح المهندس حسن فتحي حلولاً أهمهما: قيام الأهالي بالبناء بأنفسهم لأنفسهم عن طريق التعاون التقليدي، وليس الجمعيات التعاونية لذات الموظفين البيروقراطيين، وإخضاع علوم الهندسة والتكنولوجيا الحديثة لاقتصاديات الأهالي ذوي الدخول شديدة الانخفاض، بما يسمح بإيجاد مسكن يتفق مع هذه الدخول، ويؤكد حسن فتحي هنا أن ذلك يستلزم إيجاد النظام الاجتماعي – إداري / مالي- بما يسمح باستمرار فاعلية النظام التعاوني التقليدي في الظروف الحالية غير التقليدية، ذات النظام الذي بطلت فاعليته قبل الأوان بالنسبة للغالبية العظمى من الأهالي من جراء عمليات التحول الاجتماعي والاقتصادي التي شملت العالَم المُصَنِّع وجَرَّتْ معها العالَم غير المصنِّع أو العالم الثالث.
العقبة الاقتصادية الرئيسية في عملية البناء تتمثل في السقف؛ لأنه يتطلب "استعمال مواد تتحمل جهود الشد والانحناء والقص بالخرسانة المسلحة والخشب، ومن هنا كان تمسك الخبراء بهذه المواد المصنعة، وحل هذه المشكلة الفنية عند حسن فتحي مُسْتَمَدٌّ من تراثنا المعماري الذي انتهجه الأجداد الذين أعطوا السقف شكل قبو ذي منحنى سلسلي، وبذلك امتنعت كل جهود الشد والانحناء والقص، واقتصرت على جهود الضغط، والطوب الأخضر يتحمل هذه الضغوط بكل يسر، إن القدامى حلوا المشكل عن طريق الشكل الهندسي للسقف وليس عن طريق استعمال المواد المصنعة الغالية، وهكذا أخضع القدماء التكنولوجيا لاقتصاديات الأهالي الفقراء بحيث تسمح بإنشاء هذه الأسقف المقببة بدون صلبات أو عبوات خشبية، إنهم يثبتونها في الهواء، بكل بساطة بالطرق التي كانت سائدة إلى الأمس القريب في بلاد النوبة، التي لم تزل سائدة في إيران إلى اليوم وخاصة في إقليم يرد".
كان المفهوم الواسع لكلمتي الثقافة والتراث هو مدخل حسن فتحي إلى فلسفته في مجال العمارة، فهو يرى أن "الثقافة عُرفت بأنها نتيجة تفاعل ذكاء الإنسان مع البيئة في استيفاء حاجاته المادية والروحية، وينطبق أكثر ما ينطبق صدق هذا التعريف على الفنون التشكيلية ومنها العمارة؛ لأنه ليس من المعقول أن يصور مصور سويسري لوحة بها جِمال ونخيل عن طبيعة بلاده، كما لا يمكن ولا يُعْقل أن يقوم مهندس معماري عربي ببناء شاليه سويسري في مصر أو الكويت، وبجواره نخيل وجمال، إنه يكون أمرًا مضحكًا كما هو في الأفلام الهزلية، ولكن للأسف هذا هو الحادث اليوم في كافة البلاد العربية، ليس ببناء شاليهات سويسرية في المنطقة العربية، وإنما ببناء عمارات أمريكية على الطراز الغربي الحديث الذي يتنافى مع طبيعة البلاد وأشكال الناس وملامحهم التي تصبح عندما نراهم بجوار تلك المباني كأشكال النخيل والجِمال بجوار الشاليه السويسري".
فحسن فتحي كما نرى يؤكد على أن يكون المعماري ليس مجرد مهندس، ولكنه مدرك للأبعاد المختلفة للبيئة والسكان تاريخيًّا واجتماعيًّا وسيكولوجيًّا وبيولوجيًّا، كما يهتم بمراعاة مناسبة البناء للمكان (وادٍ / صحراء / جبل) حتى لا يكون قبيحًا وغير متناسب مع البيئة، وهو يرفض أن يصبح الطابع الفرعوني أو القبطي أو البابلي أو الآشوري أو الإسلامي مجرد حلية زائفة في بناء معماري على النمط الغربي، وهو يعبر عن سعة أفقه وذكاء فهمه بقوله: "إن ثَمَّة عناصر قديمة بائدة في العمارة التقليدية لا تصلح اليوم، مقابل عناصر أخرى فعالة متطورة هي التي يجب استخلاصها وإثراؤها بوحي من مواد البناء المحلية".. فالفن المعماري عند حسن فتحي "ليس صيغة ثابتة لكل العصور، بل هو مرهون بالملامح والقوى والسمات السائدة وبالظروف الخاصة الدائمة التغير".
لقد طبق حسن فتحي فلسفته في قرية القرنة في البر الغربي – جنوب وادي النيل - في مواجهة الأقصر، وشرحها تفصيليًّا في كتابه "عمارة الفقراء" الذي نُشر بعدة لغات أجنبية وأعطى حسن فتحي الشهرة العالمية، كما طبق أفكاره المعمارية أيضًا في قرية "مشربية".
أما بخصوص أفكاره حول البحيرات الصناعية، فبعد إنشاء السد العالي ونضوب الطمي من النيل، لجأ الفلاحون – للحصول على الطمي لتصنيع الطوب - إلى كشط الأراضي الزراعية، وعمل برك ومستنقعات لهذا الغرض تؤدي إلى انتشار الأمراض، وكان اقتراح حسن فتحي هو إنشاء بحيرات صناعية لهذا الغرض؛ لأن البحيرة التي مسطَّحُها خمسة أفدنة ستعطي طميًا يعادل الطمي الناتج من سطح 100 فدان، لكنه أكد على اختيار الموقع المناسب، وتصميم البحيرة بحيث يمكن تجديد هوائها دوريًّا، وبحيث يمكن تعقيمها في الوقت نفسه، وبذلك يتم القضاء على سركاريا البلهارسيا، والمحافظة على خصوبة الأراضي الزراعية، والحصول على كميات هائلة من الطمي لصناعة الطوب.
ويلخص ويليام ر. بولك رئيس معهد أدلاي ستيفنسون للشئون الدولية تجربة حسن فتحي قائلاً: وما يقترحه الدكتور فتحي هو شكل جديد من المشاركة، أما ما ينبغي أن يُسَلِّم به الفقراء في هذه المشاركة فهو بالضرورة عملهم، كما يمكنهم في كثير من أنحاء العالم أيضًا أن يحوزوا بلا تكلفة جوهرية مادة بناء واحدة ممكنة هي التربة التي تحت أقدامهم، وبهذين الشيئين – العمل والتربة - يمكنهم أن ينجزوا الشيء الكثير، على أن هناك مشاكل تقنية ومشاكل أخرى لا يستطيعون حلها بأنفسهم، أو هي عرضة لأن يتم حلها بطرق مكلفة أو قبيحة أو غير سليمة، وهاهنا فإن المهندس المعماري يستطيع أن يقوم بإسهام رئيسي، وما يبينه الدكتور فتحي لنا هو أن المهندس المعماري يمكن أن يكون هو المرشد لما يكون أساسًا مشروعًا يعتمد على الذات أو يعتمد على العون الذاتي، والدكتور فتحي إذ يخوض في الصراع مع مشاكل الفقر الساحق، ومع البيروقراطيين فاقدي الإحساس، ومع أناس مليئين بالشك، ومع أناس كئيبين بلا مهارات.. فإنه هكذا قد وَلَّد لا الإجابات فحسب، بل ما هو ملهم أيضًا، والحل الذي يطرحه له أهميته على نطاق العالم كله، وفي فكره وخبرته وروحه ما يشكل موردًا أساسيًّا على النطاق الدولي".
ما زالت أفكار حسن فتحي تتمتع بالحيوية، وتطبيقاته تمثل نجاحًا لهذه الأفكار، وفي الذكرى المئوية لميلاده ليس علينا أن نكتب عنه ونمجد ذكراه فقط، بل نستلهم الأساس الجوهري لفلسفته وأفكاره في مجالات حياتنا المختلفة