نيميير البرازيلي .. معماري يختصر إبداع أمة بأسرها
على الرغم من الشهرة الواسعة التي يتمتع بها الفنان المعماري البرازيلي أوسكار نيميير في العالم أجمع، إلا انه يشتهر أيضا بشيء آخر غير العمارة وهو خوفه المرضي من الطيران.
وهذا الخوف اضطره على مدى حياته للاعتذار عن عدم قبول دعوات من رؤساء دول ومناسبات اعلامية مهمة ورجال أعمال كبار. وذات مرة قال فيديل كاسترو الرئيس الكوبي، مازحاً، انه سيرسل سفينة لاحضاره اليه.
وقلائل هم المعماريون الذين تتاح لهم فرصة تصميم مدينة كاملة، فما بالك بعاصمة لدولة هائلة الامتداد مثل البرازيل؟ فقد أشرف نيميير على تشييد العاصمة السياسية الجديدة للبلاد، برازيليا، ابتداء بسطح التربة في موقع مهجور الى ان تحولت الى ابراج تناطح السماء. ومع ذلك فإن خوفه من الطيران أصبح واحدة من أقدم النكات التي يتندر بها البرازيليون. غير ان نيميير كان، كما اعتاد دوماً، الرجل الذي يضحك أخيرا، فهو الذي بنى صرح مجده الذي يطل في كل مكان في البرازيل بأبنية وصروح ستخلد ذكراه طويلا.
واليوم، وبعد ان أصبح عمره 94 عاماً لم يتغير نيميير، فعندما كانت باريس تحتفل بافتتاح معرض خاص بانجازاته، ظل هذا المعماري حيث بقي دوماً طوال حياته في بيته في ريودي جانيرو.
وبعد نصف قرن من الكشف عن أضخم مشروعاته، وهو بناء العاصمة برازيليا، لايزال نيميير المرجع الذي لا يشكك به أحد لتصاميم الابنية في البرازيل. وفي منزله تتوزع نماذج عن أعماله التي أنجزها في شتى أنحاء العالم من ريودي جانيرو الى رافيللو في ايطاليا. وتحول هذا المنزل الذي يطل على شاطيء كوبانا الشهير الى مقصد لطلاب العمارة ومحترفيها على السواء، مما أكسبه لقب «المعماري الرسمي» للبرازيل.
وحينما طلب معهد المعماريين البرازيليين من مئة ألف هم اعضاؤه للتصويت لاختيار معماري القرن في البرازيل، لم يكن من المفاجيء اختياره للحصول على هذا اللقب.
ويظل نيميير بعد بيليه الشخصية الأكثر شهرة في البرازيل بين الاحياء. فقد حاز على جائزة بريتزكر التي تعتبر جائزة نوبل العمارة عام 1988 وهو في سن الـ 82، ثم فاز بعد ذلك بجائزة المعهد البريطاني للعمارة. ويعتبر شخصية ذات شعبية كبيرة لعمره المديد ونشاطه الغزير، حيث يمضي طلاب العمارة أفواجا لزيارة الأبنية التي وضع تصاميمها مثل متحف الفنون المعاصرة في ريودي جانيرو. و بوجود رعاة كثر لأعماله، نادرا ما كان على نيميير ان يبحث عن عمل.
يقول ارناني فرير أحد معماري ريودي جانيرو: «حتى المعماريين الكبار في البرازيل عليهم دخول مسابقة بتصاميمهم ليحظوا بعمل، إلا نيميير، فلم يتوجب عليه سابقا ان يزعج نفسه بمثل هذا الأمر.
وبالتأكيد لا يمكن القول أبدا ان نيميير يحظى بالاعجاب عموما، فهناك عدد لا بأس به من المفكرين البرازيليين الذين أصبحوا يشعرون بالضيق من هيمنة هذا المعماري على المشهد المعماري البرازيلي المعاصر بأكمله، كما ان الرأي على المستوى الدولي كان دوما مزيجا من الاعجاب والنفور تجاه فنه منذ عقود، بل ان البعض قال ان مبانيه أشبه باجزاء مجمعة وان العيش أو العمل فيها هو كابوس.
كما ان نيميير ليس المعماري البرازيلي الموهوب الوحيد، فالمعماري باولو مينديز من ساوباولو أصبح بخطوطه الواضحة والناعمة معماريا معروفا الى المستوى العالمي فيما استطاع المعماري جواو فوليجراس عمليا ان يحدث ثورة في تصميم مباني المستشفيات.
ومع ذلك لايزال نيميير بعد حوالي 80 عاما من حياته المهنية مدرسة معمارية بحد ذاته. وأسلوبه الفني يتمتع بعدد من المعجبين يزيد على عدد المقلدين، وجعل البرازيليين فخورين بتراثهم وأكسب البرازيل مكانتها المستحقة على الخريطة المعمارية العالمية.
ولهذا لا عجب ان يعتبر لا معماريا فحسب بل نحاتا وفيلسوفا وشاعرا، وبالفعل ينظر البرازيليون له اليوم كايقونة وأبنية تمدح اكثر مما تدرس.
ومهما كان الذي يمكن ان يقال عن فن نيميير فإن قلة جدا من معماريي العالم استطاعوا ان يمثلوا أمة مثلما كان هو بالنسبة للبرازيل، فتوقيعه تعرفه كل البلاد، حيث ينتشر ما لا يقل عن 500 مبنى ضخم من تصميمه في كل انحاء البرازيل وخارجها، لكن هذا قد يكون تقديرا متحفظا جدا، إذ يعمل الآن فقط على تصميم عدة متاحف في البرازيل وانحاء أخرى من العالم، الى جانب أبنية خاصة اخرى مثل المسارح والكنائس والصالات.
وحتى الآن زار أكثر من مليوني زائر متحف الفن المعاصر في ريودي جانيرو بعد افتتاحه عام 1996، وربما يصادف المرء مبنى لنيميير في كل حي في ريودي جانيرو وساوباولو.
بدأت نجومية نيميير في الثلاثينيات حينما كان الشاب الموهوب المريد المفضل لاستاذ هذا الفن السويسري لوكوربوزييه، وحينما كانت الحداثة تجتذب اليها مجموعة من الشباب في أمريكا اللاتينية ومنهم نيميير. وتعاون الفنان البرازيلي مع معلمه السويسري في تصميم مبنى الأمم المتحدة في نيويورك مع انه كان قد بدأ ينتج تصاميم بنفسه. وفي تلك الفترة استطاع ان يحرر نفسه من طغيان المكعبات والخط المستقيم ليعتنق القوس كأفضل وسيلة للوصل بين نقطتين.
ويذكر الجميع وصفه لهذا التحول، حينما قال بشاعريته «مقوس، مثل الجبال، مثل كون انشتاين، مقوس مثل امرأة جميلة».