البعد الإنساني في العمارة ...
ينبه جون راسكن على ضرورة رؤية العمارة بمنظور جدي. ويبرر موقفه هذا
بإيمانه بأنه يمكن أن نعيش بدون عمارة كما يمكن لنا أن نتعبد بدونها أيضا
ولكن لا نستطيع أن نتذكر بدون عمارة. يتضمن رأي المنّظر هذا أهمية البُعد
التاريخي في العمل المعماري وهو يشير إلى حقيقتين. رؤية التاريخ من خلال
العمارة والثانية أن تحتوي المقترحات المعمارية من الخصائص ما يؤهلها لأن
تكون خالدة (تاريخية).
في الحقيقة الأولى يمكن المجادلة بأن التاريخ بدون إنجازات معمارية هو
تاريخ غير كامل ذلك لافتقاده الجانب المادي المتمثل في الجانب العمراني .
التاريخ المكتوب تاريخ جامد لا حركة فيه. تماما مثل الصورة الناقصة
التركيب. لا تكتمل إلا باكتمال مكوناتها. دراسة التاريخ تعتمد على الشواهد
العينية، الشواهد المكتوبة والشواهد الشفهية (الرواية الشفهية).
الرواية الشفهية تعتمد على ما تختزنه الذاكرة من روايات. ربما النصيب
الأكبر من تلك الرواية تشكل من حذق راويها و قدرته على حبكة أحداثها. وهي
تعتمد أيضا على النقل الشفهي من فرد إلى آخر. بينما الشواهد المكتوبة
تتكون من المادة المكتوبة أو المادة المرسومة (الكتب، الرسومات المسا قط
الأفقية، الواجهات، القطاعات وغيرها من التفاصيل). قد تتضمن الشواهد
المكتوبة وثائق أخرى كالعقود، المواثيق والمستندات المتعلقة بالمبنى.
الشواهد المكتوبة يمكن اعتبارها أكثر منهجية لأنها في غالبية الأمر تستند على أسلوب تقصي بحثي محدد.
الشواهد العينية تتضمن ما تركه السلف من صروح عمرانية. ليس غريبا أن يكون
هدف من سبقنا هو ترك أثر خالد على هيئة آثار معمرة لازالت باقية معنا
ليومنا هذا. بعكس العمارة المعاصرة التي غلب عليها صفة الاستهلاك مثلها
مثل أي منتوج آخر حديث. تُرى ماذا ستكون عليه حالة العمارة المعاصرة
مستقبلاً إذا تم تخيلها على هيئة أطلال أو آثار قديمة. هل سينبهر بها من
يشاهدها مثل انبهارنا اليوم بعديد من الأمثلة التاريخية القديمة. يقودنا
هذا للحقيقة الثانية.
يستوجب على المعماري ، حسب ما جاء في كتاب راسكن، أن يكون تصميمه خالداً
و معمراً. وعلى المجتمع أن يبني مبانيه بكل دقة و تأني واهتمام حتى تعمر
لفترة طويلة وتكون بمثابة السجل المعماري الحي للأجيال القادمة. ينعكس
هذا الاهتمام في التحكم في النسب الجميلة، اختيار المواد المعمرة الإنشاء
المتين، التفاصيل الجيدة، والزخــرفة الملائمة المتمشية مع هوية البيئة
الموجودة بها. بهذا تتحقق صفة التاريخية و يكون العمل مساهمة في إثراء
المخزون التاريخي.
المباني القديمة جزء من التاريخ الذي يجب المحافظة عليه. تكون المحافظة
عليه بصون خصائصه وليس بترميمه. ففي الترميم قد يتم القضاء على عديد
الملامح الأصلية للمبنى.الجانب التاريخي للعمل المعماري يتحقق إذاً
بالمحافظة على الموروث و العمل على إيجاد عمارة دائمة.
التضحية في العمارة تعني عدم التشبث كثيرا بالمعايير الاقتصادية والوظيفية
في حد ذاتها والاهتمام بمعايير أخرى تضفي صفة التميز والإبداع على العمل
المعماري. العمارة فن. يتعدى دور هذا الفن الوظيفة ليشمل توفير المتعة،
القوة، الصحة والراحة النفسية بعكس عملية البناء. نشاط البناء يتضمن وضع
أجزاء المبنى المختلفة مع بعضها البعض في صورة متزنة بحيث لا تحدث خللاً
في التركيب الإنشائي. ما يميز العمارة هو جانبها الفني من خلال مخاطبتها
لحواس الإنسان المختلفة. كثيرون يعرفون التصميم المعماري عبر الإدراك
الحسي لمكوناته( Perception).
وبدعوى الحرية طغى الإنتاج الصناعي لمواد البناء مع الاعتبارات
الاقتصادية والقيم الوظيفية الضيقة على التنوع الحضاري لنتاج العمارة.
الحرية في التعبير المعماري صفة حسنة متى التزمت بمحددات البيئة المحيطة
كما أن هذه المحددات لا يمكن فهمها في نطاق ضيق وإلاّ أصبحت مجرد شيء
إضافي عائق للإبداع المعماري. الكثير يؤمنون بأن عنصر القوس رمزاً "
مطلقاً" للمعمار الإسلامي المحلي، لهذا شاع استخدامه في الغلاف الخارجي
حتى في المباني متعددة الأدوار، لم ينحصر استخدام هذا العنصر في الأدوار
الأرضية بل تكرر دون اعتبار لتأثيره على الناظر وكأن المبنى الخالي من
مثل هذا العنصر للواجهة غير إسلامي بينما المسقط الأفقي والمعالجات الأخرى
تعكس تأثيرات نمط معيشي غريب.
العمارة لا يمكن لها أن تكون أداة للمساهمة في صنع الحضارة إلاّ إذا روعي
في نتاجها القوانين المختلفة السائدة في المجتمع. العمارة ستكون معبرة
متى أوجدت صلة وصل بين ما يتحقق من تقدم في المجالات المختلفة والقيم
الاجتماعية بحيث تصبح محددة المعالم ومقروءة الهوية حتى تكون المباني على
اختلاف أنواعها تنتمي إلى مدرسة معمارية معرّفة. هذه المدرسة لا تستند
على الاختراع بل تعتمد على المخزون الحضاري للمجتمع، فهي لا تسعى لإيجاد
نمط معماري جديد بقدر ما يكون غرضها كامنا في تحقيق معالم معمارية ترسخ
أصالة وثراء المخزون الحضاري بأبعاده السياسية والثقافية والاقتصادية.
هناك حاجة لتحديد منهاج هذه المدرسة لضمان عدم فقدان ركن مهم من أركان
الوجود الحضاري وعدم الوقوع في أزمة الاغترابAlienation .
الأصالة والإبداع والتغيير لا يمكن اعتبارهم أهداف مطلقة في حد ذاتهم كما
أنهم لا ينقضون العرف والتقاليد السائدة ولا يعتمدون على الجديد بقدر
انعكاسهم واستمراريتهم لما سبق. هذه الاستمرارية مختلفة عن الالتحاف
برداء الماضي أو التقوقع داخل قوالب مسبقة التجهيز. إنها الرؤية المميزة
لغنى وتنوع نتاج العمارة بهدف إيجاد عمارة مميزة ومنتمية للمكان، فهي
الرؤية المدركة لاحتياجات الحاضر الغير غافلة للسوابق والمتطلعة لآفاق
أفضل للبيئة المعمارية.